وصايا الشهداء: كنز في عهدة «المستبشرون»

Image

اختار حزب الله عبارة «أحياء» شعاراً لاحتفالات «يوم الشهيد» لهذا العام. الاحتفاء هذه المرة مضاعَف، لتزامنه مع أربعينية المقاومة الإسلامية، التي وإن امتلكت أسباباً قريبة وبعيدة لصمودها، لكن يبقى السبب الأعمق. هو حفظ وصايا الشهداء. فمن أبقاهم أحياء طوال أربعين عاماً؟

قبل أيام، تلقّى حسين نبأ وفاة بلال المقداد. انتقل إلى مركز الأرشيف، في وحدة الإعلام الحربي. أخرج مشاهد مصوّرة للمقداد الذي لم يكن قد مضى على وفاته ساعة واحدة. مشاهد تظهره تارة متنقلاً أمام عدسة الكاميرا بلباسه العسكري متحدّثاً ومازحاً وضاحكاً، وتارة يتلو وصيته للأمة ولأهله. أحال حسين الشريط إلى قسم المونتاج، الذي حضّر سريعاً مادة مصوّرة ذُيّلت بتوقيع (الفقيد المجاهد).

في موت المجاهدين، تعدّدت الأسباب، إلا أن الإجراءات التكريمية هي نفسها لدى قيادة المقاومة. في اليوم التالي لدفنه، استقبلت عائلته وفداً قيادياً سلّمها شريط حياته الجهادية، وفيه وصية المقداد التي سجّلها عام 2003، فأورثها كنزاً لم تعرف به من قبل.

قبل المقداد وبعده، استشهد كثيرون من عناصر حزب الله على الجبهات، أو بوفاة طبيعية. غالبيتهم تركوا أثراً مصوّراً يحفظ وصاياهم ويقتفي طيفهم في الميادين. آثار أودعوها بأمانة لدى ملف «المستبشرون» في وحدة الإعلام الحربي. أمانة لا تخرج إلى التداول إلا بموتهم.

الكاميرا في الميدان

بين نصر ونصر، يجلس حسين، مسؤول ملف «المستبشرون»، يرتّب الوصايا المصوّرة للشهداء ومن ينتظر نحبه. يتجوّل ابن التاسعة والعشرين عاماً، بين انتصارات عمرها أربعون عاماً. مكتبه مزيّن بغنائم عمليات عسكرية وكاميرات وثّقت لها، إلا أن أبرز ما في المكان عبارة مرصّعة للسيد حسن نصرالله قالها خلال إحياء يوم الشهيد العام الماضي: «علينا أن نقرأ وصايا الشهداء المستبشرين».

قبل أن يتسلّم الملف، كان حسين واحداً من فريق المصوّرين الذين واكبوا الجبهة السورية ومعركة تحرير الجرود. في ذروة المعارك والشهادة، كانت الكاميرا عنصراً ثابتاً في الميادين والمعسكرات بهدف تسجيل مقطع مصوّر لكلّ مقاوم قبل التحاقه بالمعركة واحتمال استشهاده. بناءً على قرار من القيادة، أُلزم أبناء الحزب بتسجيل وصاياهم أمام الكاميرا، وكانت الأولوية للمقاتلين في الصفوف الأمامية.

تنوّع الصفوف الأمامية حدّد شكل الإطار الذي يتماهى مع المحيط. مقاتلو الجبهة السورية ارتدوا البزّات العسكرية البنية، فيما مقاتلو الجبهة اللبنانية ارتدوا البزات الخُضر. وجميعهم لاحقتهم العدسة في ميدانهم سواء في الصحراء أو في الطبيعة أو في الجرود الوعرة. يستطيع المصوّرون فرض الشكل العام للصورة، لكن كلّ مقاوم يفرض ميزاته الخاصة أمامها. منهم من يتحدّث بانسيابية وأريحية، ومنهم من تغلب عليه هيبة الموت القريب.

الموت ببال مرتاح

حتى عام 2018، صُوّرت عشرات آلاف الوصايا بالتزامن مع الاستنفار العام. كثير من أصحابها استشهدوا بعد مدة قريبة، ومنهم بعد ساعة واحدة فقط. حسين نفسه وثّق الساعات الأخيرة لعدد منهم. في 19 آذار 2015، سجّل حسين وصية علي الموسوي. وسط معسكر في البقاع، بذل حسين جهداً في إقناع ابن الواحد والعشرين عاماً بتلاوة وصيته أمام الكاميرا، ثم تركه وحيداً مع الكاميرا ليقول ما يحلو له في مخاطبة الأمة جمعاء وحزبه وأسرته وجيرانه. «هلق الواحد بيموت وباله مرتاح». تنفّس الصعداء كمن أنزل حملاً عن صدره. حاله كحال رفاقه، ولا سيما الذين يضمّنون في وصيتهم المصوّرة، حقوقهم وواجباتهم الدينية وتوزيع إرثهم وممتلكاتهم والنصائح للوالدين والزوجة والأولاد. عندما أنجز حسين التصوير، حمل مادة الموسوي وحفظها في الأرشيف مع مئات المواد الأخرى، من دون أن يطّلع على محتواها، باستثناء المراجعة التقنية لجودة الصوت والصورة. بعد حوالي أربعة أشهر، استشهد الموسوي في سوريا. القيّمون على الملف، كانوا من أول من تبلغوا بنبأ استشهاده. مضوا سريعاً لإخراج مقطعه من الأرشيف وعملوا على تجهيزه لتسليمه سريعاً إلى الأهل، إذ إن أول ما يُسألون عنه هو الوصية. قُسمت وصيته إلى مقطعين. العام الذي أوصى به الناس لمتابعة القتال حتى القضاء على التكفيريين وتحرير القدس، والخاص الذي توجه به إلى أسرته. في مراسم تأبينه، عرضت قيادة المقاومة الوصية العامة، فيما سلّمت وصيته الخاصة للأهل.

ولادة «المستبشرون»

تسجيل الوصية ليس تدبيراً حديثاً في المقاومة الإسلامية. أولى الوصايا كانت مع الاستشهادي أحمد قصير الذي سجّل صوته وهو يتلو وصيته، قبل تنفيذ عمليته الاستشهادية في مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في 11 تشرين الثاني عام 1982، التاريخ الذي اعتُمد يوماً لشهيد حزب الله. إلا أنّ الأمر لم يكن منظّماً كما هو الحال عليه اليوم.

بعد عدوان تموز 2006، تم التنبّه إلى أنّ 50 شهيداً فقط ممن سقطوا فيه، كانوا قد سجّلوا وصاياهم. وما بين عامَيْ 2000 و 2006، تم تسجيل 400 وصية فقط. بحلول عام 2008، كان قد انبثق ملف «المستبشرون» تحت إشراف قيادة المقاومة. الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله هو من اختار التسمية المستوحاة من الآية القرآنية: «فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم (...)». ومن وحي بشارة النصر والشهادة، تم تجهيز الملف بأحدث معدات التصوير والمونتاج. ولإقناع المجاهدين بالموافقة على التصوير، كان مصطفى بدر الدين قد عمّم قراراً مركزياً «يُمنع أي أخ من الدخول إلى المحور قبل تسجيل وصيته». استحدثت غرفة تسجيل الوصايا في كلّ محور.

العمليات ذاكرة إضافية

لم يخرج الحاج حمزة من «المستبشرون» برغم انتقاله لتولي مهمات أخرى في الإعلام الحربي. فهو من أركان الوحدة المكلفة بتصوير عمليات المقاومة ووصايا الاستشهاديين قبل غدوهم إلى هدفهم. من فرقة المشاة، قرّرت القيادة نقله في الثمانينيات إلى قسم الإعلام بسبب معرفته بالتصوير، وبالتوازي مع تبلور أهمية توثيق عمليات المقاومة الإسلامية، إما بسبب نكران بعضها من قبل العدو، أو نسبها إلى فصائل أخرى، أو خوفاً على ضياع أثر الشهيد الذي تركه، وهو ما حدث مع التسجيل الصوتي للاستشهادي أحمد قصير الذي تضرّر مع الزمن.

أول عملية مصوّرة كانت عام 1983 لكمين نُفذ في وادي جيلو ضد دورية للاحتلال الإسرائيلي. ولاحقاً صُوّرت عمليات في خلدة ومحاور أخرى. كما سُجلت لاحقاً وصايا للاستشهاديين أسعد برو وهيثم دبوق. وبسبب الإمكانات المحدودة والتحديات الأمنية من العدو وعملائه وفي ظل الاقتتال الداخلي، كانت الوصية تُسجّل في غرفة مغلقة وبعدسات كاميرات غير حديثة. تصاعد عمليات المقاومة واندحار العدو إلى الحزام الأمني، فرضا ضرورة تنظيم جهاز خاص للتصوير. فكانت جريدة العهد ثم إذاعة النور ولاحقاً قناة المنار. وما بينها، أُسست اللجنة الفنية التي تطوّرت لاحقاً لتصبح الإعلام الحربي بشكل رسمي عام 1996. اللجنة تألفت من عدد قليل من المصوّرين منهم الحاج حمزة، الذي يقرّ بأنه لم يلمس أهمية ما قام به إلا بعد عرض العمليات التي صوّرها على وسائل الإعلام وعاين ردات فعل الجمهور. الصدى الكبير الذي لاقته مشاهد اقتحام موقع الدبشة في عام 1994، التي صوّرها، فعلته مشاهد اقتحام موقع سجد عام 1997. ناب عنه، زميله سعيد فران الذي خطر بباله بأن يشمل نفسه بالتصوير مع المقاتلين، مشاريع الشهداء. آخر مشهد التقطته الكاميرا بعد رفع الراية، يد فران وهي تهوي بعد إصابته بشظية قذيفة انشطارية. بكى كثيراً على زميله الذي تكنّى بلقبه العسكري «الحاج حمزة». بعد الدبشة وسجد، تركت مشاهد تصوير اقتحام موقع حداثا أثراً لافتاً لدى العدو عام 1998. الحاج حمزة شارك فيها تصويراً. كما سجّل وصية الشهيد الشيخ أحمد يحيى (أبو ذرّ) الذي استشهد خلال الانسحاب الإسرائيلي عام 2000. لكن الصدى الأكبر كان لما وثّقه أحد زملائه، وهو فيلم الاستشهادي صلاح غندور الذي واكبته الكاميرا، بدءاً من تلاوة وصيته في غرفة مغلقة وصولاً إلى لحظة تفجير سيارته بموكب للاحتلال في صفّ الهوا في بنت جبيل في عام 1995.

«لسنا عزرائيل»

يبتسم حسين مبتسماً رداً على سؤال عن تقييمه لمهمته في إقناع زملائه بتسجيل وصاياهم ويقول ضاحكاً: «لسنا عزرائيل». لا ينفي أن المهمة صعبة «أبتعد عنهم. أراقبهم من بعيد وأحبس تأثري. لكني أعود إليهم محاولاً تمضية أكبر وقت معهم. كأني أودّعهم نيابة عن أهلهم وأصحابهم، برغم أنني لا أعرف غالبيتهم».

كثرة التسجيلات تحوّل العمل إلى روتين تلقائي، لكنها لا تنزع هيبة الشهادة التي تفرض نفسها على موقع التصوير ما إن يجري تشغيل الكاميرا. «مع ذلك، يشدّني بعض أبطال الفيلم أكثر من غيرهم. أشعر بأنهم شهداء من همساتهم وبسماتهم ودفء خطواتهم. سبحان الله الشهيد يعرف بأنه سيستشهد».

أما الحاج حمزة، فكان التأثر يغلب عليه وعلى زملائه في المراحل الأولى عندما كان التصوير يقتصر على الغادين مباشرة إلى الموت. «لم أكن أتمالك نفسي. أرتبك عندما أواجه الذاهب إلى الموت وعندما أتشارك سرّ عمليته مع القيادة. أبكي عندما أسمعه يخاطب والديه وأولاده. وبعد استشهاد عدد ممن صوّرت وصاياهم، بكيت كثيراً ومنهم صديق طفولتي». حفظ حمزة أقوال السيد عباس الموسوي ولاحقاً السيد نصرالله، عن أهمية المصوّر. «العملية بكف والمصور بكف» قال الموسوي. فيما قال نصرالله عن عملية غندور بأنها «لو لم تُصوّر، لفقدت 80% من مصداقيتها». مع ذلك، يقرّ حمزة بأنه تمنى أحياناً خلال المعركة «لو أترك الكاميرا وأطلق النار». إلا أنه سريعاً ما يتنبه إلى أن عدسته هي من سيخلّد ذكر المقاتلين وانتصاراتهم، وقد لعبت دوراً في جذب المئات للالتحاق بحزب الله.

انتشار الوصايا

لاحظ القيّمون على الملف أنّ وصية الشهيد لم تعد محلية الأثر. محتوى ما يوصي به كفيل بأن يؤثر في جيل كامل، ويحفزّه للانضمام إلى المسيرة ويظهر للعدو الثبات على النهج". وهنا، يستعرض شواهدَ عدة لوصايا مصوَّرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مثل وصيتَي الشهيدين مهدي ياغي وعيسى برجي.

برغم ارتفاع الوعي تجاه أهمية تسجيل الوصية وإلزاميتها، لكنّ البعض لا يزال يرفض التصوير، فيما القيادة تتفهّم أسبابهم الوجيهة، بشرط كتابة إفادة خطية تؤكد الرفض وأسبابه. من يرفضون وصية العدسة، يتركون وصية مكتوبة. فمنهم من يخشون على أهاليهم من التأثر كلما شاهدوها. في المقابل، يتحمّس آخرون لتسجيل الوصية لأجل أولادهم عندما يكبرون. ومنهم من سجّل أكثر من وصية في حال مرّ عليها الزمن. أحدهم سجّل ثلاث وصايا حتى الآن عندما طرأ متغيّر لديه: توفي والداه أو تزوّج، أو زاد عدد أولاده. ومنهم من لم تسنح له الفرصة بالإعادة كالشهيد مهدي ياغي الذي عندما سجّل وصيته كان لا يزال في مرحلة الخطوبة. وعندما بُثّت بعد استشهاده عام 2013، كان قد تزوج وأنجب ولديْن.

معظم أعضاء الملفّ التزموا بتسجيل وصيّته. فالأمر ليس ترفاً. لوحة تخليد ذكرى زملائهم العشرة الذين سقطوا خلال تأدية عملهم، تؤكد المؤكد. الحاج حمزة سجّل وصيّتين، الأولى قبل مشاركته في تصوير عملية اقتحام موقع بئر كلاب عام 1997 والثانية قبل اقتحام موقع عرمتى عام 2000. أما عن سبب الإعادة، فلأنه رزق بطفل.

 

جريدة "الأخبار"