اليمن وحصاد مأرب: الإمارات تنسحب تحت التهديد
يقول يمنيون من الجنوب إنهم يخشون تكرار تجربة أفغانستان عندهم. ويشيرون إلى حركة القوات العسكرية السعودية والإماراتية في كلّ المناطق التي تخضع لسلطة التحالف المعادي لليمن. وهم يراقبون كيف أن السعودية أخلت خلال الأسابيع الماضية معظم المعسكرات التي كانت موجودة فيها في محافظات الجنوب، وخصوصاً في محافظة المهرة، واستمرار وجود عدد قليل من الجنود في مركزها في الغيضة، وإبقاء مجموعة من الضباط يجولون على نحو 27 معسكراً توجد فيها قوات من المقاتلين الجنوبيين الانفصاليين. وفي الموازاة، صار نادراً العثور على قوات إماراتية في الكثير من المناطق الجنوبية، بالرغم من أن أبو ظبي تخشى أكثر ما تخشاه سقوط المهرة بيد "أنصار الله"، إلا أنها اهتمّت بالمناطق الجنوبية الساحلية، وخصوصاً عدن والغرب باتجاه باب المندب، إضافة إلى بعض الجزر. لكن القوات الإماراتية سبق أن باشرت عملية إخلاء واسعة لقوّاتها بعد تلقّيها سلسلة من الضربات العسكرية التي تَبيّن للإماراتيين أنها ضربات تستند إلى عمل استخباري دقيق.
المشكلة الآن، لم تَعُد تخصّ ما يجري في مأرب. الكلّ، من دون استثناء، من أبناء البلد ومن الخارج يتصرّفون على أن المدينة سقطت. وما يجري عملياً هذه الأيام هو إدارة تفاوض بين صنعاء وعدد من القبائل من أبناء مديرية الوادي الملاصقة لمأرب من جهة الجنوب – الشرقي، بالإضافة إلى المدينة نفسها، وسط حركة نزوح واسعة لكلّ "الغرباء" الذين باتوا يشعرون بأنهم غير مرحَّب بهم من قِبَل أبناء المدينة، حيث النقاشات تُركّز على خيار وحيد: تجنيب المدينة الدماء والدمار، وتكرار تجربة الحزم عاصمة الجوف، التي وافقت القبائل فيها على تسوية انتهت إلى تسليمها لقيادة صنعاء من دون معارك. لكن الجميع، بمن فيهم القبائل نفسها، يعرفون أن مجريات العملية العسكرية مستمرّة من جانب "أنصار الله"، وقد تمكّن الجيش و"اللجان الشعبية" من التقدّم أكثر نحو مناطق ملاصقة للمدينة. وفي حال عدم التوصّل إلى اتفاق سريع، فإن القرار عند قوات صنعاء هو اقتحام المدينة مهما كانت الكلفة، مع الإشارة إلى أن القبائل المقاتلة استسلمت، وعلى رأسها قبيلة بني مراد، بينما لا يُعرف عن الأشراف في مديرية الوادي أو أبناء عبيدة في مأرب بأس القتال، بل التجارة والعمل في التهريب والسيطرة على مناطق غنية، وهم أقرب إلى تسوية مع "أنصار الله" حفاظاً على ما تَبقّى لهم.
السعوديون دخلوا مرحلة جديدة من التعب والإحباط. كل القوات والقبائل التي عملوا معها وعملت معهم خلال الأشهر الستة الماضية لم تُقدّم أيّ علاج لوقف هجوم "أنصار الله". حتى عندما نجح البريطانيون في تعديل خطّة القتال بأن افتعلوا مشكلات من جهة شبوة والضالع، كانت النتيجة أن "أنصار الله" خفّفت من حدةّ هجومها على مأرب ووجّهت قواتها صوب الجنوب، وحقّقت تقدّماً تجاوز ما كان عليه الوضع سابقاً، بل نجحت، لأول مرّة منذ سنوات، في العودة إلى مناطق جنوبية، ولو عبر تسوية مع القبائل المحلية هناك. لكن هذه العملية أتاحت لـ"أنصار الله" محاصرة كلّ المعابر الجنوبية والشرقية ــــ الجنوبية التي تقود نحو مأرب، ما جعل السعوديين وكلّ القوات الجنوبية بحاجة إلى رحلة طويلة تقودهم من حضرموت نحو المدينة المحاصَرة. عملياً، لم يَعُد هناك سوى منفذ واحد، وإذا ما قرّرت "أنصار الله" الدخول في المواجهة الشاملة لاستعادة المدينة، فسوف يُقفَل هذا المنفذ. ومشكلة السعودية هنا، أن الدعم الإضافي الذي حصلت عليه من الأميركيين لم ينفع. فلا سَرب طائرات الـ"أف 16" الذي استُقدم على عجل، نجح في صدّ الهجمات البرّية، ولا شبكة طائرات الاستطلاع التي نُشرت على مدار الساعة نجحت في وقف الضربات العسكرية ذات البعد الأمني، ولا كلّ القصف العشوائي حال دون تقدّم القوات. بالنتيجة، انتهى الجميع إلى خلاصة بأن مأرب سقطت... فماذا عن القادم؟
من الجهة الشرقية، يخشى السعوديون من لجوء "أنصار الله" إلى عملية عسكرية واسعة تتيح لها التقدّم للسيطرة على الجزء الشمالي من حضرموت. وهي معركة قد تقود الحركة صوب معبر الوديعة، حيث سيتمّ إقفال آخر معابر السعودية نحو اليمن، علماً بأن "أنصار الله" تقول علناً إنها مهتمّة أوّلاً بالوصول إلى حقول صافر التي تَبعد أقلّ من ستين كيلومتراً عن مأرب المدينة، وهي ستصل إليها ولو تطلّب الأمر معركة عسكرية. وعندما هدّد السعوديون بأنهم سيضربون منشأة صافر ومصادر إنتاج الطاقة فيها، جاء التهديد المباشر من "أنصار الله"، بأن ضرب صافر يعني أن كلّ موانئ وحقول ومصافي النفط في السعودية ستكون هدفاً مفتوحاً على مدار الساعة، وقد لمس العسكريون الغربيون الذين يساعدون السعودية استعدادات عملانية عند قوات صنعاء لشنّ عملية جوية مفتوحة ستجعل من ضربة "أرامكو" مجرّد مزحة... مع الإشارة إلى بعض الأصوات الجنوبية التي ارتفعت احتجاجاً وخشية من تدهور أكبر في حال ضُربت حقول صافر، وخصوصاً أن الريال في الجنوب انهار بنسبة الضّعف عن الشمال، ولم يَعُد لدى الجنوبيين موارد غير ما يصلهم من السعودية والتي يبدو أنها قلّصت نفقاتها.
لكن النقاش لا يتوقف عند هذا الجانب. إذ علم السعوديون، كما علمت كلّ محطات التنصّت العسكرية والأمنية التي تعمل في البحر الأحمر وفوق ومِن حول اليمن، بأن قيادة "أنصار الله" وجّهت غرفة العمليات لإعداد خطة سريعة تهدف إلى استعادة باب المندب، مباشرة بعد الانتهاء من معركة مأرب. وجرت اتصالات على أكثر من صعيد، أظهرت أن الحركة تعمل على تجهيز قوات خاصة تتولّى النزول من الجبال المحيطة بالحديدة، وصولاً إلى المخا وباب المندب، وأن العملية العسكرية على قساوتها سوف تكون حتمية، ولدى "أنصار الله" من الخطط والإمكانات ما يجعل النتيجة محسومة مسبقاً. وعندما يصبح الحديث عن سيطرة قوات صنعاء على باب المندب، يكون هناك كلام آخر.
في هذه النقطة، بدأت الهواتف ترنّ في كلّ مكان. وبدأت الطائرات تنقل الوفود سرّاً وعلناً بين العواصم المعنيّة. بادر المصريون إلى اتصالات شملت عواصم عدّة، من بيروت إلى طهران إلى صنعاء نفسها، وسعت القاهرة إلى ترتيب اجتماع لديها مع مسؤول رفيع من حكومة صنعاء، علماً بأن الأخيرة سبق أن أوفدت نائب وزير الخارجية فيها، حسين العزي، إلى الأردن لإدارة مباحثات مع الأردنيين وغيرهم. ويبدو أن المصريين يركّزون على ضرورة عدم توسيع دائرة المواجهات. صحيح أن الإعلام السعودي والإماراتي روّج لفكرة أن مصر هدّدت "أنصار الله" بأن الإمساك بباب المندب سوف يجعل القاهرة تتدخّل، لكن هذا الكلام لم يُقَل في الاجتماعات، بل ركّز المصريون في كلّ اتصالاتهم على أنهم يريدون وقف الحرب، ولو أنهم لا يريدون إغضاب السعودية. لكن "أنصار الله" كانت شديدة الوضوح بأن لا نقاش حول الوضع في مأرب، وأن الأمر حُسم ولا عودة عنه تحت أيّ ظرف، وأن البحث في المراحل التالية أساسه خطوة علنية وواضحة وحاسمة تصدر عن السعودية، ومعها الإمارات وأميركا، وتقول: لقد أوقفنا الحرب وسنرفع الحصار فوراً عن كلّ اليمن... وقبل ذلك، لا تجد "أنصار الله" من داعٍ لأيّ بحث.
أضف إلى ذلك، ما يتعلّق بكون المعنيّين بأحوال البحر الأحمر، وعلى رأسهم إسرائيل وأميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والإمارات، يعرفون أن بمقدور "أنصار الله" تعطيل الملاحة بصورة كاملة، من دون الحاجة إلى إرسال مقاتل واحد إلى سواحله. وتعرف هذه العواصم، أيضاً، أن الحركة جرّبت صواريخ أرض ــــ بحر، بمَديات تتيح لها ضرب أيّ هدف يتحرّك في البحر الأحمر، عدا عن أن بمقدورها إغراق الممرّ التجاري العالمي بكمّية من الألغام البحرية التي تحتاج جيوشاً وسنوات لإزالتها. لكن صنعاء لا ترغب بذلك، وفي الوقت نفسه لا تقبل أقلّ من استعادة السيطرة والإمساك بكلّ ما يتعلّق بباب المندب. وهو أمر يعرفه المصريون والآخرون أيضاً.
ومع أن إسرائيل تبدو الأكثر قلقاً من وصول "أنصار الله" إلى باب المندب، والإطلالة على كلّ حركة البحر الأحمر من جهة الغرب، وعلى بحر العرب من جهة الجنوب، فإن جزءاً من الأطراف الموجودة على الأرض هناك يخضع لوصاية الإمارات، وفي مقدّمه القوات التي يقودها طارق صالح من بقايا حزب "المؤتمر"، فيما أطراف أخرى تتصل بحزب "الإصلاح" الذي تَمزّق في هذه الحرب، ويبدو أنه في آخر أيامه بعد معارك مأرب، بالإضافة إلى مجموعة "العمالقة" السلفية التي تمثّل القوّة العسكرية الأبرز في تلك المنطقة. لكن للإمارات حساباتها أيضاً.
سارع الإماراتيون، سرّاً وعلناً، إلى بدء التفاوض. قصدوا طهران وغيرها من العواصم، وطلبوا من المصريين التوسّط لدى مَن يقدر على التأثير على "أنصار الله". وهم أثاروا الأمر مع السوريين أيضاً، وإن كانوا يعلمون أن دمشق أجابت الرياض عندما طلبت التوسّط من أجل مأرب مقابل دعم الإعمار في سوريا، بأن لا صلة بين الملفَّين، وأن التسوية في اليمن تتطلّب توجّه الجميع نحو صنعاء فقط. لكن قلق أبو ظبي يزداد يوماً بعد يوم، جرّاء ما يصلها من الأخبار عن مأرب. ولدى الإمارات خشية كبيرة من أن تلجأ قيادة "أنصار الله" إلى إقرار خطّة للتقدّم صوب المهرة. والطريق إلى هذه المحافظة مفتوحة، ولا وجود لسكّان فيها، والنقاط العسكرية فيها محدودة للغاية، بينما يمكن لِمَن يصل إليها أن يكون على تخوم سلطنة عُمان، وعلى بعد عشرات الكيلومترات من الإمارات. لكن تهديداً واضحاً سمعه الإماراتيون قبل فترة وجيزة، وجاء على لسان المتحدّث العسكري لـ"أنصار الله"، العميد يحيى السريع، الذي قال: "لدينا قائمة تضمّ عشرات المواقع في الإمارات كأهداف محتملة للهجمات"، وأضاف: "للنظام الإماراتي... عملية واحدة فقط ستكلّفك كثيراً، ونحن نعلن لأول مرة أن لدينا عشرات الأهداف ضمن بنك أهدافنا في الإمارات، منها في أبو ظبي ودبي، وقد تتعرّض للاستهداف في لحظة".
تعرف أبو ظبي ماذا تقصد "أنصار الله". صحيح أن قيادة الحركة لا تريد توسيع دائرة المواجهات في الإقليم، لكن حصل في ليلة مقمرة قبل بضعة شهور أن جاب سرب من المسيّرات اليمنية السماء الإماراتية ووصل إلى أبو ظبي ودبي، وعاد من دون أن تكتشفه وسائط الدفاع الجوي الإماراتي. لكن "أنصار الله" تعمّدت، وقبل مغادرة السرب للأجواء الإماراتية بقليل، أن يظهر على شاشات الرادار، وكانت الرسالة واضحة. والذي حصل بعدها، أن بادرت الإمارات إلى اتصالات سرّية مع الحركة من خلال إيران وآخرين، وقالت إنها لا تقدر على التحاور مباشرة مع صنعاء خشية غضب السعودية، لكنها تريد وقف الحرب. ثمّ تبعت ذلك اتصالات خلال الأسبوعين الماضيين، استخدمت فيها الإمارات قيادات من حزب "المؤتمر" موجودة في صنعاء نفسها، ليحصل قبل عشرة أيام، أن أبلغت الإمارات "أنصار الله" رسمياً بأنها ستخلي الحديدة قريباً جدّاً، وسوف تلزم القوات الجنوبية الحليفة لها بالعودة إلى المخا، وتسليم المدينة من دون قتال، وهو الذي حصل خلال اليومين الماضيين، ومن دون إشعار أحد بالأمر، بمن فيهم الموفدون الدوليون الذين يتولّون المفاوضات. حتى الجنوبيون أنفسهم علموا بالأمر في ساعاته الأخيرة، ووجدوا أنفسهم في حالة إرباك، واضطروا إلى الخروج على عجل. لكن أبو ظبي علمت بطرق مباشرة أن ما هو مطلوب منها يتجاوز هذه الخطوات إلى الخروج نهائياً من كلّ اليمن، ووقف كلّ تعاون مع إسرائيل في البحر الأحمر أو بحر العرب أو الجزر، وأكثر من ذلك، أن تتعهّد الإمارات، كما السعودية ودول خليجية أخرى، بدفع التعويضات الكافية لإعادة إعمار ما دمّرته حربها على اليمن، ويبدو أن هذا البند سيكون أساسياً من الآن فصاعداً.
عملياً، تريد الإمارات من هذه الخطوة محاولة إقناع "أنصار الله" بتجميد خطّة الهجوم على باب المندب، لكن هذا الأمر غير محسوم، وهو ما يجعل القوات الجنوبية، ولا سيما قوات "العمالقة" أو قوات طارق صالح، تتصرّف على أساس أن المواجهة قادمة لا محالة، إلّا إذا نضجت تسوية سياسية كبيرة، علماً بأنها تدرك أن عودتها إلى المناطق الجنوبية الأخرى ستكون مدخلاً لمواجهات جديدة مع جماعة السعودية (قوات عبد ربه منصور هادي)، التي لا يبدو أنه سيبقى لها أثر بعد بضعة أسابيع حتى في الجنوب نفسه.
يدخل اليمن في مرحلة جديدة من المواجهة الهادفة إلى الإجهاز على العدوان السعودي ــــ الإماراتي ــــ الأميركي عليه، وتشير كلّ الوقائع الميدانية والسياسية إلى استحالة تعديل ميزان القوى، حتى ولو تَقرّر دخول مباشر للقوات الأميركية وحتى الإسرائيلية في الحرب، كما ترغب السعودية، بل إن الجميع يشعرون بأن كلّ المنطقة ستكون أمام واقع جديد خلال المدّة الفاصلة عن نهاية السنة. وعلى هذا المقياس، يُفترض باللبنانيين، سواء كانوا من أنصار السعودية أو من خصوم المقاومة، أن يفهموا سبب الغضب الذي يسيطر على آل سعود. وعلى هؤلاء إدراك أن الرياض لم تَعُد تجد مساحة أو ساحة غير لبنان لاختلاق أوراق للتفاوض عليها مع الطرف الآخر. لكن المشكلة أن السعوديين لا يَعرفون بعد أن عدم انصياعهم للنتائج العملانية، وإعلان وقف الحرب ورفع الحصار ودفع التعويضات لإعادة إعمار اليمن، سوف يُبقي الباب مفتوحاً أمام جولات جديدة من المواجهات الميدانية التي ستتركّز هذه المرّة في قلب الأراضي السعودية.
دلالات «تفرّد» الإمارات بالانسحاب من الحديدة
دفع انسحاب «القوات المشتركة» المموّلة إماراتياً من الساحل الغربي لليمن، إلى خلط الأوراق السياسية، وإعادة رسم الخرائط العسكرية، في ما يحتمل أن يؤدّي لاحقاً إلى تبدُّلٍ على مستوى مواقف الأفرقاء الفاعلين، كما على مستوى الولاءات المحليّة. وبقرار أبو ظبي الانسحاب من الحديدة والساحل الغربي، تَسقط الحملة العسكرية التي شنّتها دول «التحالف العربي»، بدعمٍ مباشر من الغرب، واستطاعت في خلالها إحداث خرقٍ واسع، مكّنها، في عام 2018، من الوصول إلى شرق الحديدة، بهدف «قطع شريان الحياة عن صنعاء»، والتحكّم بأهمّ ميناء مدني يصل عبره الغذاء والدواء إلى أكثر من 20 مليون يمني، فيما انتهى الهجوم بإعلان الأمم المتحدة عن «اتفاق استوكهولم» الخاص بالمحافظة الساحلية.
هكذا، أقفلت الإمارات ملفّ احتلالها للساحل الغربي عبر وكلائها، من دون أن تُقنع أحداً بجدوى خطوتها أو الأسباب التي دفعتها إليها. فهي لم تكترث أصلاً لكلّ الأصوات المعترضة والمتضرّرة، ولم تكلّف نفسها عناء تبرير التخلّي عن أهداف رفعتها أثناء غزوة الحديدة: خنْقُ صنعاء تمهيداً لإسقاطها؛ إذ اعتبر وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية في حينه، أنور قرقاش، أن «تحرير الحديدة، هو بداية نهاية الحرب. الاختيار في اليمن بين الدولة والميليشيا، بين الانضباط والعنف، بين السلام والحرب». وبشيء من الاعتزاز ونشوة النصر الموهومة، سوّلت له نفسه تصنيف اليمنيين، ومن يحقّ لهم حكم البلاد، ومن يجب إقصاؤهم، فقال إن «ثلاثة في المئة من اليمنيين لا يستطيعون حُكم بقية البلاد وتحديد مصيرها».
وفيما كانت صنعاء على علمٍ مسبق بخطوة الانسحاب وتوقيتها وأسبابها وآليات تنفيذها، جاء القرار الذي نفّذته «القوات المشتركة» بقيادة طارق صالح، صادماً للجميع، ومفاجئاً لوكلائه المحليّين، قبل أعدائه. أمّا اعلان «القوات المشتركة» أن الانسحاب جزء من مندرجات «اتفاق استوكهولم»، فزاد من الغموض والالتباس حول أهدافه والجهة التي تقف خلفه، وما إن كان قراراً صادراً عن غرفة عمليات «التحالف» أم أن الإمارات تفرّدت به، واستطراداً، وضع علامة استفهام كبيرة حول موقف السعودية، وما إن كانت على علم بخطوة حليفتها، وما إذا كانت الإمارات أصلاً تتجرّأ على المضيّ قُدُماً بقرار كهذا من دون علم الرياض.
وإذا كان بيان «القوات المشتركة» وُضع في إطار إعادة التموضع والانتشار، فإن المعطيات على الأرض تفيد بأن غالبية القوات المنسحِبة، تموضعت في الشريط الساحلي بين مدينة المخا وباب المندب والمناطق الخلفية التي يمكن أن تؤمّن ظهر القوات المنتشرة على الخطّ الساحلي، أي مديريَّتي الوازعية والموزغ، غرب تعز. أمّا الأكثر تضرُّراً من خطوة الانسحاب، فهي القوى والفصائل المنضوية تحت جناح «التحالف» بفرعَيْه السعودي والإماراتي، والتي طرح سياسيوها ونخبها أسئلة صعبة ومعقّدة على الملأ في وسائل الإعلام المختلفة عن مصيرهم وسيناريو نهاية الحرب القاتم وفشل الرهانات على «التحالف» والأسباب الموجبة لهذا الانسحاب، في وقت كان من المنتظر فيه أن تخفّف هذه الجبهة عن مأرب، فيما تساءل آخرون عن الأثمان الباهظة التي دُفعت في سبيل الوصول إلى الحديدة. وعلَّق أحد النشطاء على ذلك بالقول: «كانت جبهات الساحل الغربي أكبر مهلكة ومجزرة لأبناء الجنوب، حيث فقدنا أضعافاً مضاعفة من الشهداء لتحرير الجنوب الذي استغرق ثلاثة أشهر، بينما الساحل سبع سنوات». وأضاف: «فقدنا عشرات الآلاف، حتى إنه بسبب كثرتهم لم يصرِّح ولو مرّة واحدة، قادة، بل مرتزقةُ وتجار الدم السلفيون، ممَّن يسمّون قيادات العمالقة، عن عدد الشهداء. لقد استغلوا فقر وعوز شباب الجنوب ليجعلوهم كبش فداء، وها هم اليوم ينسحبون تاركين كل التضحيات الجسام».
إلى ذلك، أظهر الانسحاب العديد من المفارقات حول توقيته وسرعة تنفيذه، إلى درجة أن الضباط على الأرض فوجئوا بالقرار، وحاول بعضهم التمرّد لولا تهديدهم بقصْف الطيران في حال لم ينفّذوا الأوامر، فضلاً عن عدم علم قادة الفصائل، ولاسيما «ألوية العمالقة» السلفية، و»ألوية المقاومة التهامية». والمفارقة الأخرى هي أن ما يسمَّى «الشرعية» التي تعتبر الجهة المسؤولة عن تنفيذ «اتفاق استوكهولم»، والتي شُنّت الحرب بدعوى تمكينها وإعادتها إلى صنعاء، بدت غائبة عن السمع كلياً، وآخر مَن يعلم بما يُخطَّط له من جانب أطراف فاعلين في تحالف العدوان. والأكثر غرابة في قرار الانسحاب، أن راعي «اتفاق استوكهولم»، أي الأمم المتحدة التي تتموضع قواتها للفصل بين القوات المتحاربة، نفت علمها المسبق بانسحاب «القوات المشتركة» من الحديدة.
يذكر أن الإمارات أعلنت، أكثر من مرّة، أن الحرب في اليمن انتهت، إذ غرّد ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، في حزيران من عام 2016، قائلاً: «وجهة نظرنا واضحة: انتهت الحرب بالنسبة إلى جنودنا. نراقب الترتيبات السياسية ونعمل على تمكين اليمنيين في المناطق المحرَّرة». لكنه تراجع في ما بعد، لتشكّل قواته رأس الحربة في الهجوم على الحديدة عام 2018. ولاحقاً، أعلنت أبو ظبي انسحاب قواتها العسكرية أكثر من مرّة، ليتبيّن أنها لا تزال تتموضع في العديد من الأماكن الحيوية في البلد. وفي أواخر الشهر الماضي، انسحبت قواتها من معسكر العلم القريب من مركز محافظة شبوة، وكان من المقرَّر أن تنسحب من منشأة بلحاف المطلّة على بحر العرب، غير أنها أجّلت قرارها خشيةَ سيطرة «حزب الإصلاح» عليها. وبدل الانتشار الواسع والمباشر للقوات العسكرية، سعت الإمارات إلى كسْب النفوذ في المناطق الساحلية اليمنية وفي جنوب البلاد، بهدف تعزيز حضورها عند خطوط الملاحة البحرية في خليج عدن ومضيق باب المندب والسيطرة على الجزر، ولا سيما جزيرتَي سقطرى وميون، وفي اتجاه القرن الأفريقي.
تفكُّك "القوات المشتركة" سرّع قرار الانسحاب
تمكّنت حكومة صنعاء، خلال الساعات الـ72 الماضية، من فرْض سيطرتها على معظم مديريات جنوب مدينة الحديدة، إثرَ انسحابٍ جماعي مفاجئ للميليشيات الموالية للإمارات في الساحل الغربي لليمن. وهو انسحابٌ جرى من دون تنسيق مع حكومة عبد ربه منصور هادي، ومن دون علم قائد "القوات المشتركة" الذي يشغل منصب رئيس أركان هادي في مأرب، الفريق صغير بن عزيز، وهو ما عزاه مراقبون إلى "الصراعات الداخلية" التي تعيشها هذه القوات في الساحل الغربي، والتي يصل قوامها إلى أكثر من 31 لواءً عسكرياً موزّعة على "حرّاس الجمهورية" (13) التي يقودها العميد طارق صالح، نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبدالله صالح؛ ألوية "المقاومة التهامية" (5)، "قوات العمالقة" (13)، يضاف إليها أربعة ألوية مشاة تتبع وزير الدفاع الجنوبي السابق، اللواء هيثم قاسم طاهر. على أن هذه الميليشيات الموالية للإمارات، والتي لا يعترف معظمها بشرعية حكومة هادي، تعيش، منذ أكثر من عام، حالة صراع داخلي، خلفيته محاولات السيطرة على قرارها وإخضاعها لقيادة طارق صالح. فمنذ مطلع العام الجاري، خاضت هذه التشكيلات صراع سيطرة ونفوذ في الساحل الغربي ومديريات جنوب الحديدة، أدّى إلى احتدام الخلافات في أوساطها، حتى وصلت إلى المواجهات والاعتقالات ومحاولات الاغتيال.
عملية الانسحاب التي بدأت فجر الخميس، بإخلاء "القوات المشتركة" كل مواقعها المتقدِّمة في الأحياء الشرقية والغربية لمدينة الحديدة، امتدّت إلى التحيتا وأطراف الخوخة وحيس. ووفق مصادر في القوات المنسحبة، تمّ تكديس الميليشيات عند أطراف مدينة المخا والخوخة، مع تَقدُّم الجيش و"اللجان الشعبية" للسيطرة على مدن التحيتا والفازة والدريهمي ومحيط مدينة حيس جنوب الحديدة. وبينما وضعت "القوات المشتركة"، الانسحاب في إطار "عملية إعادة التموضع خارج مناطق اتفاق استكهولم" لكن الانسحاب شمل مناطق غير منضوية في إطار الاتفاق المذكور، وجرت من دون إبلاغ احد من حلفاء الامارات بالخطوة. ما دفع برئيس حزب "المؤتمر الشعبي العام" في محافظة الحديدة، عصام شريم، إلى اتهام الإمارات بانها صارت قوّة احتلال في اليمن، وتستخدم الملفّ اليمني للمقايضة في ملفّات إقليمية أخرى، داعياً حكومة هادي إلى التحقيق في عملية الانسحاب التي شهدتها مواقع جنوب مدينة الحديدة وشرقها.
لكن يبدو أن هناك مشكلة تعاني منها الميليشيات الجنوبية، ساهمت في قرار الإمارات. فـ"ألوية العمالقة" تعيش صراعاً داخلياً من جهة، وصراعاً مع ميليشيات طارق صالح من جهة أخرى. كما ساد التوتّر العسكري بين "العمالقة" في الساحل الغربي وألوية "حراس الجمهورية" من جانب، و"المقاومة التهامية" بقيادة عبد الرحمن حجري، من جانب آخر. ولأن طارق صالح يحتفظ بعلاقات جيدة مع الجانب الأميركي منذ أن كان أحد مسؤولي ملفّ "مكافحة الإرهاب" في عهد عمّه الرئيس علي عبدالله صالح، جرى تهميش وإقصاء "ألوية العمالقة" و"المقاومة التهامية". ويريد طارق صالح تسويق الميليشيات التي يقودها أمام المجتمع الدولي على أنها درع واقٍ للملاحة الدولية في مضيق باب المندب، بسبب وجودها العسكري في جزيرة ميون الاستراتيجية المطلّة على المضيق الاستراتيجي، وإن كان دورها، وفق مصادر محليّة، لا يتعدّى حماية القوات الإماراتية والأجنبية الموجودة في الجزيرة. مع الاشارة الى ان ابو ظبي تدعم صالح في مواجهة قيادة "العمالقة" التي يغلب عليها تقلُّب الموقف وعدم الإذعان الكامل لتوجيهاتها، وهو ما اضطرّها لوقف صرف رواتب هذه الميليشيا.
كذلك، عانت "المقاومة التهامية" من إقصاء وتهميش وتفكُّك من الداخل، بعدما رفض قائدها، عبد الرحمن حجري، الخضوع لسلطة طارق صالح الذي حاول مرات عدة إطاحة حجري من قيادة "المقاومة التهامية" وتنصيب قائد آخر موالٍ له، بعدما تطوّر الصراع بينهما إلى اعتقالات متبادلة طاولت عناصر من الطرفين واقتحامات لمباني حكومية في مدينة الخوخة.
وعلى مدى السنوات الماضية من الحرب الدائرة في الساحل الغربي لليمن، دفع طارق صالح بالميليشيات الجنوبية المنضوية تحت "ألوية العمالقة" إلى الصفوف الأمامية في محيط مدينة الحديدة والدريهمي، وسيطرت "المقاومة التهامية" على التحيتا والخوخة وحيس والفازة وميناء الحيمة البحري، بينما كانت ميليشياته، "حراس الجمهورية"، موجودة في معسكر أبو موسى الأشعري في الخوخة والمناطق المحيطة بمدينة المخا غرب تعز، وفي مناطق مطلّة على مضيق باب المندب: كهبوب وموزع والوازعية. ووفق مصادر محلية، وجّه طارق صالح قائد قوات المشاة، اللواء هيثم قاسم طاهر، قبل أكثر من شهر، بنقل قواته إلى تخوم مدينة الحديدة، ونشْر ميليشياته في الوازعية عوضاً عن القوات الجنوبية. واعتبر المصدر أن نقْل القوات وإعادة تموضع "حراس الجمهورية" في جبهات خلفية غير ملتهبة، "تكتيك عسكري ومقدّمة لما حدث من انسحاب". فقوات المشاة التي يقودها طاهر، كانت أوّل الألوية المنسحبة من الأحياء الغربية والشرقية لمدينة الحديدة، بعدما خسرت المئات من القتلى والجرحى. وبدا لافتاً أن عدداً من الألوية التي انسحبت من مديريات جنوب الحديدة سبق لها أن حاولت الانسحاب والعودة إلى المحافظات الجنوبية، لكنها اصطدمت باشتراط قيادة "القوات المشتركة" عليها تسليم كلّ أسلحتها الثقيلة والمغادرة من دون سلاح، فشكّل التوجيه بالانسحاب بالنسبة إليها فرصة، لأن الانسحاب مع معدّاتها الثقيلة يعني الحفاظ على كيانها في المحافظات الجنوبية.
المصدر : جريدة الأخبار