غزة... المعركة تبدأ الآن

Image

كما كان متوقّعاً، انطلقت، سريعاً، معركة الشدّ والجذب السياسية بين العدو الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وذلك عبر المفاوضات غير المباشرة التي ترعاها بشكل رئيس مصر، ومن خْلفها الولايات المتحدة الأميركية. وفق ما هو واضح إلى الآن، يبدو أن ثمّة محاولة لإغراء المقاومة بعملية إعادة إعمار سريعة، تترافق مع الشروع في مساعٍ جدّية لمنحها «اعترافاً دولياً»، وإخراجها من «قوائم الإرهاب» الأميركية والأوروبية، مقابل انتزاع موافقتها على هدنة طويلة الأمد، يؤمل أن تمتدّ لعقدَين وفق الحديث السائد في الأروقة المصرية، التي بدأت تُروّج أيضاً لـ«خطة سلام» جديدة سيُحسم أمرها مع قدوم أنتوني بلينكن إلى المنطقة. يأتي هذا فيما يبدو الميدان مرشّحاً للمزيد من الجولات القتالية، إمّا باتّجاه تثبيت معادلة «غزّة - القدس» وتكريس حدودها بشكل نهائي، أو باتّجاه كسرها وفق ما يطمح إليه الاحتلال، الذي بدأ من الآن العمل على إيجاد الظروف التي تتيح له خرقها. إزاء كلّ ما تَقدّم، تؤكّد المقاومة أن محاولات فرض معادلات جديدة على قطاع غزة باتت «وراء ظهور الفلسطينيين»، وأن الملفّات الإنسانية لا يمكن ربطها بأيّ حال من الأحوال بمباحثات وقف إطلاق النار، وأن التعنّت فيها سيؤدي إلى إفشال جهود التهدئة الجارية حالياً

المقاومة في معركة الشدّ والجذب: لا عودة إلى الوراء

في الوقت الذي ارتفعت فيه حدّة تهديدات الاحتلال تجاه قطاع غزة، بما يشمل الاستمرار في سياسة الاغتيالات، تزامناً مع الجولات المكّوكية التي يقوم بها الوفد المصري بين القطاع وتل أبيب لتثبيت التهدئة، فاجأ قائد حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار، العدوّ، بجولة علنية على بيوت عزاء الشهداء، حملت رسائل تحدٍّ كبيرة. وللمرّة الثالثة، وصل الوفد المصري، أمس، إلى القطاع للقاء فصائل المقاومة الفلسطينية، واستكمال مباحثات وقف إطلاق النار، في وقت هدّدت فيه الفصائل بالعودة إلى التصعيد، في ظلّ الاستفزازات التي يقوم بها الاحتلال، وخاصة في ما يتعلّق بالوضع في مدينة القدس، وسماحه باقتحام عدد من المستوطنين للحرم القدسي أمس، وفرض حصار على حيّ الشيخ جراح.

وحسبما علمت «الأخبار»، فقد نقلت فصائل المقاومة رسالة شديدة اللهجة إلى الوسيط المصري، محذّرة من أن المهلة التي أُعطيت لتثبيت وقف إطلاق النار شارفت على الانتهاء من دون أن يلتزم العدوّ بموجباتها، وهذا الأمر سيدفع المقاومة إلى التصعيد مجدّداً، مؤكدة أن محاولة فرض أيّ معادلات جديدة من قِبَل الاحتلال على غزة باتت وراء ظهور الفلسطينيين. كذلك، شملت الرسالة تهديداً واضحاً بأنّ أيّ اعتداء على القطاع سيتمّ الردّ عليه بالمستوى نفسه، وخاصة في ظلّ محاولة أطراف في الكيان فرض معادلة جديدة في ما يتعلّق بإطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة، وهو ما ردّ عليه المصريون بالقول إنهم وجّهوا تحذيراً إلى تل أبيب من الإقدام على عمليات اغتيال ضدّ قادة المقاومة، وخاصة خلال فترة المباحثات التي ترعاها القاهرة بدعم من الرئيس الأميركي، جو بايدن. وفي ما يتّصل باستمرار إغلاق معابر قطاع غزة والبحر، وتأخُّر إصلاح خطوط الكهرباء المُغذِّية للقطاع، تعهّد المصريون للفصائل بأن يتمّ حلّ هذه المشكلة خلال أيام، فيما شددت المقاومة على أن تلك القضايا تقع خارج إطار مباحثات وقف إطلاق النار، وأن تعنّت الاحتلال فيها سيؤدي إلى إفشال الجهود التي تقوم بها القاهرة.
في المقابل، طرح الوفد المصري على حركة «حماس» تجديد مباحثات صفقة تبادل الأسرى، وهو ما رحّبت به الحركة، مبيّنة في الوقت نفسه أنه لا جديد في موقفها الداعي إلى إتمام الصفقة، وأن الاحتلال هو الذي يرفض دفع الثمن الذي تطلبه المقاومة للإفراج عن الجنود الأربعة، مؤكدةً أن ربط إعادة إعمار قطاع غزة بالتبادل قضية خاسرة «لا يمكن ابتزاز الحركة بها نهائياً». وبخصوص إعادة الإعمار، أبلغت «حماس»، الوسيط المصري، بتشكيل مجلس أعلى في القطاع سيشكّل مرجعية لإدارة الملفّ، بمشاركة أطراف حكومية والمجتمع المدني والمؤسّسات الدولية، مُرحّبة بالجهد المصري في هذا الإطار، ومُنبّهة في الوقت نفسه إلى أن إعمار ما تمّ تدميره من قِبَل الاحتلال ليس بحاجة إلى آليات خاصة أو معقدة.

وتزامناً مع تهديدات العدو بتنفيذ اغتيالات ضدّ قادة المقاومة على رغم وقف إطلاق النار، فاجأ قائد حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار، دولة الاحتلال، بجولة تفقدية داخل القطاع، شملت عائلات وأسر الشهداء، الأمر الذي اعتبره معلّقون إسرائيليون ترسيخاً للنصر الذي حقّقته المقاومة، على رغم تعالي التهديدات الإسرائيلية. وبعد ساعات من تهديد بيني غانتس، وزير جيش العدو، بأن الأخير لن يسمح بعودة تنقيط الصواريخ أو البالونات من غزة، وأن سياسة الردّ سيتمّ تشديدها بشكل أكبر، اندلعت حرائق عدّة في غلاف غزة نتيجة إطلاق بالونات حارقة من القطاع، بحسب أمير بحبوط، مراسل موقع «واللا» العبري، الذي تساءل متعجّباً: «رَدْع؟! ننتظر لنرى ماذا سيكون ردّ الجيش».
وتعقيباً على توصيات رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، بتغيير آلية إدخال الأموال القطرية ومِنَح الإعمار لغزة، لتكون عبر السلطة الفلسطينية من دون أن تصل إلى يد حركة «حماس»، وتنفيذ هجمات عنيفة ضدّ القطاع ردّاً على إطلاق الصواريخ أو البالونات أو فعاليات الإرباك الليلي، قال المصدر «الحمساوي»: «نفهم جيداً أن هذه محاولة تهرّب من حالة الفشل لدى جيش الاحتلال خلال المعركة الأخيرة، في ضوء اتهامات يسوقها بنيامين نتنياهو ضدّ الجيش، وهذه وصفة سريعة لنسف جهود الوسطاء والعودة إلى مربّع المواجهة الذي انتصرت فيه المقاومة».
من جهة أخرى، بعد أيام من ربط نقابة عمال شركة الكهرباء في دولة الاحتلال إصلاح خطوط الكهرباء التي تُغذّي قطاع غزة بعودة الجنود الأسرى من القطاع، نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية أن عمال شركة الكهرباء شرعوا، منذ صباح أمس، بإصلاح الأعطال في الخطوط الواصلة إلى غزة، وذلك خشية أن يؤدّي استمرار تعطّلها إلى تسرّب مياه الصرف الصحي إلى شواطئ «زيكيم» و»نيتسانيم» و»عسقلان» و»أسدود»، ما يؤدي إلى إغلاقها أمام الجمهور، عدا عن تأثيره السلبي على مشروع تحلية المياه وتسمّم الأسماك.

تل أبيب تدرس خياراتها: معادلة «غزة - القدس» على حدّ السيف

معادلة «غزة ــــ القدس» باتت قائمة، وتُرجمت بإجراءات يحرص الطرفان عليها، ويمتنعان إلى الآن عن خرقها. التزام الفصائل، وفقاً للمعادلة الجديدة، هو في الامتناع عن استهداف إسرائيل، عسكرياً، إن التزمت الأخيرة بما يَفترض الجانب الغزّي أن عليها الالتزام به، وتحديداً كفّ اليد عن الحرم القدسي وعن حيّ الشيخ جراح، وقضايا أخرى تخصّ المقدسيين يمكن إلحاقها بهما. أمّا إسرائيل، فتلتزم عملياً، من دون أن تقرّ بذلك، بالانكفاء عن الاعتداء على القدس والمقدسيين. التزامٌ عملي متأتٍّ ممّا يمكن وصفه بـ»اتفاق خضوع» جرى التوصّل إليه مع فصائل غزة، من دون أن يحمل صفة رضى الطرفَين كليهما، ما يعني أنه فُرض فرضاً على إسرائيل، وتبلورت مفاعيله بإرادة طرف واحد، هو هنا الفصائل، وبالتالي فما على تل أبيب إلّا الانصياع لمحدّداته، وهذا أقلّ ما تتوقّعه المقاومة.

على أن الفارق بين الاتفاق الملزِم بإرادة الطرفين، و»اتفاق الخضوع»، هو أن الطرف المذعن في الحالة الثانية لا يستمرّ في التزامه إن رُفعت عنه الضرورات التي دفعته إلى الالتزام بما لا يريد، وذلك ما حرصت إسرائيل على التشديد عليه عبر خطوة وقف إطلاق النار من جانب واحد. إلّا أنه ميدانياً، يُفترض أن تلتزم بما فُرض عليها، أي كفّ اليد عن القدس، وتحديداً في ما يتعلّق بتهجير المقدسيين ومصادرة دورهم السكنية، مع الإشارة إلى أن الانكفاء الإسرائيلي جاء نتيجة تجميد الاعتداءات لا إلغائها، والفروق كبيرة جداً بين الحالتين. هي إذاً معادلة غير ثابتة إلّا بناءً على ثبات عواملها وأسبابها، وتحديداً استمرار فصائل المقاومة في غزة في وضع يدها على الزناد والتوثّب للردّ على اعتداءات إسرائيل في القدس. وهذا المعطى، بمعنى العامل المُسبّب لنشوء المعادلة الجديدة، سيكون حاضراً دائماً على طاولة القرار في تل أبيب، مع بروز أيّ نية أو توجّه لاستئناف القرارات العدائية، في تحسّب من شأنه التحوّل إلى معادلة كاملة وراسخة، إن أحسن الجانب الغزّي استثماره.
بكلمات أخرى، هو نوع من الردع والارتداع، فُرض فرضاً على إسرائيل عبر القوة العسكرية والخشية من تسبّب سلّة إجراءات جديدة في القدس باستئناف استخدام الفلسطينيين القوة من جديد. وهنا مكمن ضعف تلك المعادلة في سياق قوّتها، كونها سيّالة جدّاً وصعبة القياس. فالانكفاء عمّا يتسبّب بنشوب جولة قتالية جديدة هو عامل رادع للطرفين؛ فلا إسرائيل معنيّة بهذه المواجهة أو التسبُّب بها، ولا الفصائل في غزة معنيّة بذلك، أي أن الطرفين يدركان أن حدوداً ما تمنع كلّاً منهما وتردعه، ليس في ما يتعلّق بإسرائيل التي ستكون معنيّة بالإحجام عن أيّ اعتداءات صاخبة في القدس فقط، بل أيضاً بالنسبة إلى الفلسطينيين المعنيّين من جهتهم بأن تكون ردودهم مضبوطة.

من هنا، يمكن التقدير أن نتيجة الجولة القتالية الأخيرة قد لا تكون الأخيرة فعلاً، وأن الميدان قد يكون مرشّحاً للمزيد من الجولات، سواء باتجاه ترسيخ المعادلة الناشئة، أو باتجاه كسرها. وتلك ستكون مهمّة الجانبين. وبالنظر إلى أن حدود معادلة «غزة ــــ القدس» مشوَّشة وغير واضحة بشكل كامل، فسيكون كلّ طرف، وهنا الإسرائيلي أكثر، معنيّاً بفحص هذه الحدود، والبحث في الحدّ الذي يُعدّ من جانب الفلسطينيين خطّاً أحمر، يُلزمهم بالردّ عسكرياً، فيما على الفلسطينيين إيضاح هذا الخطّ مسبقاً، وتأكيد إرادة التحرّك، إن لزم، لمنع تجاوزه إسرائيلياً.
في السياق نفسه، وفي ما يُمثّل مكمناً آخر من مكامن خطورة التسبّب بنشوب مواجهة، تبرز إمكانية تقدير إسرائيل اللاحق لأيّ ظرف مستجدّ ضاغط، من شأنه، وفق رؤيتها، أن يردع الجانب الفلسطيني عن الردّ، في حال قرّرت هي معاودة الاعتداء الصارخ في القدس. قد ترى تل أبيب، مثلاً، في متغيّر ما يطرأ على غزة، داخلي أو خارجي أو بيني، رادعاً لحركة «حماس» والفصائل الأخرى، وحائلاً دون تفعيل القوة، أو في حدّ أدنى دون تفعيلها بشكل كامل ومؤذٍ، وهنا لن تتردّد تل أبيب في التملّص من إذعانها لالتزامها القسري في القدس. والجدير ذكره، هنا، أن الساحة اللبنانية شهدت عيّنات لسوء تقديرات إسرائيلية من هذا النوع، دفعت الكيان إلى المعاينة العملية لإمكانات خرق معادلة الردع مع «حزب الله»، وذلك عبر اعتداءات «مدروسة»، مبنيّة على قراءة مغلوطة بأن متغيّراً أو متغيّرات طرأت على الساحة اللبنانية أو ما يرتبط بها، من شأنها ردع «حزب الله» عن الردّ على اعتداءاتها. لكن الفهم العميق والالتزام الحاسم لدى قيادة «حزب الله» بالردّ، وفقاً لقناعة راسخة عنده بأن التبعات السلبية للردّ مهما عظمت، لا تقارَن بالتبعات السلبية لـ»اللاردّ» أو الردّ الشكلي، أوجبت عليه الردّ تناسبياً، وهو ما لجم إسرائيل عن مواصلة اعتداءاتها، وأحبط نيّتها كسر المعادلات.
بالنتيجة، معادلة «غزة ــــ القدس» قائمة على حدّ السيف. إسرائيل معنيّة، من دون أدنى شكّ، بخرقها، وهي ستعمل على استغلال أيّ فرصة تُتاح لها كي تخرقها، بل وعلى إيجاد الظروف التي تتيح لها خرقها، فيما على الجانب الفلسطيني الغزّي التيقّظ والاستعداد العسكري، وقبلهما الإرادة الحاسمة في الردّ على الاعتداءات. لا يعني ما تَقدّم أن الردّ ضروري وواجب على أيّ خرق في القدس، لكنه لا يعني أيضاً أن كلّ خرق يمكن التغاضي عنه. كذلك، وهنا تَكمن صعوبة تقدير الآتي، فإن خرق المعادلة من طرفَيها أو أحدهما، مع الردّ الذي يلجم المُضيّ قُدُماً في الخرق، لا يعني بالضرورة استئناف القتال أو جولات قتالية جديدة.

جعبة المقاومة لم تفرغ: «سيف القدس» بعض بأسها

على مدار أحد عشر يوماً، لم تُخرج المقاومة الفلسطينية سوى جزء يسير ممّا في جعبتها في مواجهة الاحتلال، مُعتمِدةً على سلاح الصواريخ وقذائف «الهاون» بدرجة أساسية، مع استخدام محدود لأسلحة أخرى من مِثل الطائرات والصواريخ المُوجَّهة، فيما غابت الوحدات القتالية الباقية نتيجة اختفاء جيش العدو عن الأنظار. ويرجِّح خبراء عسكريون أن المقاومة الفلسطينية أخذت بعين الاعتبار احتمال استطالة المعركة، ما جعلها تتنوّع في استخدام الأدوات العسكرية، ليكون لديها جديد كلّ يوم، وبما يشكّل ضغطاً متواصلاً على الكيان.


الصواريخ
برزت الصواريخ كسلاح أساسي واستراتيجي في معركة «سيف القدس»، إذ أطلقت المقاومة خلال هذه المواجهة قرابة 4500 صاروخ تجاه الأراضي المحتلة، وهو ما يعادل الصواريخ التي أطلقتها خلال حرب 2014، إلّا أن الفارق اليوم أن تطوّراً واضحاً ظهر في المنظومة التي باتت أكثر تركيزاً وقدرة على التدمير وإصابة الأهداف، إضافة إلى إدخال أنواع ومديات جديدة إلى الخدمة لأوّل مرّة. ولم تَستخدم المقاومة، خلال الجولة الأخيرة، سوى تلك الصواريخ المُصنَّعة محلياً، والمخزّنة منذ فترة طويلة، والتي باتت لديها طرازات جديدة وأكثر تقدُّماً منها، وأضحت الحاجة ماسّة إلى استبدالها، وفق ما ذكره عضو المكتب السياسي لحركة «حماس»، صالح العاروري. كذلك، بدا واضحاً عدم إدخال المقاومة الصواريخ المتطوّرة التي كان يرسلها محور المقاومة إلى قطاع غزة طيلة السنوات الماضية، والتي أماطت اللثام عنها «كتائب القسام» خلال العام الماضي، ضمن برنامج «ما خفي أعظم» على قناة «الجزيرة» القطرية.
وكانت دولة الاحتلال، قبيل معركة «سيف القدس»، تُقدرّ امتلاك الفصائل الفلسطينية أكثر من 14 ألف صاروخ، إلّا أن حجم الكثافة النارية، وتوجيهها إلى مدن المركز، وتضاعُف القدرة النارية بأكثر من 400% عمّا كانت عليه في حرب 2014، كلّها عزّزت التكهّنات الإسرائيلية بأن المقاومة استطاعت مضاعفة ترسانتها عدّة أضعاف، وهو الأمر الذي دفع عدداً من الكتّاب، وأبرزهم بن كاسبيت، إلى التوقُّع أن الفلسطينيين سيقدرون في الجولة المقبلة على ضرب تل أبيب بالحدّة نفسها التي «سحقوا بها عسقلان هذا الأسبوع».

وأمام الادّعاءات الإسرائيلية بتفوّق «القبّة الحديدية» في تحييد صواريخ المقاومة واعتراضها بنسبة عالية، خالفت إحصائيات الأضرار التي تعرّضت لها دولة الاحتلال تلك الادّعاءات، إذ أدّت الصواريخ إلى تدمير أكثر من 3400 منزل، إضافة إلى 1700 مركبة، ما يعني أنها كانت تصل إلى أهدافها وتُحقّق أضراراً بالغة، الأمر الذي يؤكد فعّاليتها العالية وعدم قدرة «القبّة» على التقاطها. وتميّزت صواريخ المقاومة، هذه المرّة، بعجز الاحتلال عن الوصول إلى منصّات إطلاقها التي تَظهر فجأة وتختفي بسرعة فور إطلاق رشقاتها، وهو ما لم يُمكّن العدو من كشفها واستهدافها، سواء بشكل مسبق أو بعد الإطلاق، أو الوصول إلى العناصر التي تُفعّلها.

الصواريخ المُوجّهة
نفّذت المقاومة، خلال معركة «سيف القدس»، أربع عمليات استهداف لقوات الاحتلال عبر الصواريخ المُوجَّهة من طراز «كورنيت»، ما أدى إلى مقتل 3 جنود وإصابة 7 آخرين، بحسب اعتراف المصادر العبرية؛ إذ استهدفت «كتائب القسام» و»سرايا القدس» «جيبَين» عسكريَّين أحدها تابع لمخابرات الاحتلال، فيما تمّ استهداف باص ينقل جنود العدو، وزورق حربي في عرْض بحر غزة.

الطائرات المُسيّرة
كذلك، برز خلال المواجهة الحالية طرازان من الطائرات المُسيَّرة، هما « شهاب الانتحارية، و»الزواري» الاستطلاعية، إلى جانب طراز قديم من نوع « أبابيل»، إضافة إلى طائرات الاستطلاع (الدرونز) الصغيرة الحجم، والتي استولت المقاومة على عدد منها خلال السنوات الماضية بعد إسقاطها وإعادة إدخالها الخدمة لصالحها. ولأوّل مرّة، استهدفت «شهاب» مصنعاً لإنتاج الكيماويات في مستوطنة «نتيف هعتسرا» شمال قطاع غزة، وتجمّعاً للجنود قرب القطاع، فيما شكّل استهداف منصة الغاز قبالة غزة مفاجأة للاحتلال الذي اعترف بأن إحدى الطائرات الانتحارية تمّ تطويرها لتحمل رأساً قتالياً مضادّاً للدبّابات، وأنها حاولت تدمير مركبة عسكرية شمال القطاع، وأن بإمكانها التغلُّب على المصفّحات. وفي الإطار نفسه، ذكر محلّل الشؤون العسكرية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أليكس فيشمان، أن «محاولة استهداف المركبة العسكرية فشلت، لكن حماس ستستخلص العبر وتستمرّ في تطوير هذا السلاح»، مضيفاً أن «التطوّر الجديد يشير إلى تقدّم في صناعة الأسلحة» لدى المقاومة، مشيراً إلى أن هدف هذه الطائرات ضرب منظومة «القبّة الحديدية»، واختراق المصفّحات في الجزء العلوي الأقلّ تصفيحاً.
أمّا طائرة «الزواري»، فقد برزت بعدما استطاعت جمع معلومات استخبارية عن تحرّكات جيش الاحتلال على بعد 5 كلم من حدود قطاع غزة، الأمر الذي سهّل على المقاومة توجيه إحداثيات الصواريخ القصيرة المدى وقذائف «الهاون»، واستهداف جنود العدو بها، ما أدّى إلى مقتل 4 منهم وإصابات العشرات بحسب الاعتراف الإسرائيلي، بينما تَمثّلت المفاجأة في إعلان المقاومة أن هذه الطائرة عادت إلى قواعدها بسلام.

الغوّاصات المُسيّرة
ولأوّل مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، كشفت صحف عبرية أن الفلسطينيين استخدموا غوّاصات انتحارية مُسيّرة عن بعد لضرب أهداف للاحتلال في عرْض بحر غزة، بما فيها منصّة الغاز التي تبعد عن القطاع 20 كلم. وذكرت قناة «كان» العبرية أن حركة «حماس» تمتلك غوّاصات غير مأهولة تعمل بنظام «GPS»، قادرة على حمل مواد متفجّرة بزنة 50 كيلوغراماً، مدّعيةً أن «الجيش دمّرها بعدما أخطأت هدفها»، وعليه تمّ إيقاف نشاط المنصة بقرار من وزارة الطاقة في دولة الاحتلال.

 

أحد عشر يوماً هزّت إسرائيل

أحد عشر يوماً كانت كافية لهزّ إسرائيل ومعها كامل العالم الغربي، الذي سارع، كالعادة، إلى محاولة لملمة فضيحة العجز العسكري الإسرائيلي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فكان وقف النار الإسرائيلي غير المشروط، وهو وقفٌ تماشى مع الفشل العسكري الواضح وعبّر عنه. وحتى الآن لا جديد، فهذا ممّا اعتدناه. أمّا الجديد الذي خلط الأوراق وعطّل الحسابات وفرمل الأوهام، كلّ الأوهام، التطبيعية والتسووية والالتحاقية، وقد لا يتأخّر في تبديدها تبديداً كاملاً، أن ما كان قبل التوثّب البطولي لغزة لن يكون كما بعده. وإشارات هذا الجديد واضحة وحاسمة وغير قابلة لأيّ نقاش، بدليل المعطيات السياسية الكبيرة التي نشأت والمعادلات العسكرية الاستراتيجية التي استقرّت. ففلسطين، كلّ فلسطين، من البحر إلى النهر، ومعها الشتات القريب والبعيد، قد توحّدت خلف المقاومة، ورفعت رايتها، وأعلنت تبنّيها الواضح والحاسم لهذا الخيار الوطني والقومي والأخلاقي والإنساني... وهذا إنجاز كبير وتحوُّل تأخَّر بعض الشيء، لكنه، وهذا هو المهمّ، كغيره من الإنجازات «الغزّية»، لن يكون بلا نتائج، وأوّلها عزل مستعربي رام الله ووُشاتها تمهيداً لكنسهم مع رعاتهم في الإقليم وفي العالم... إنه واقع إسرائيل الجديدة الذي استولدته المقاومة، وكتبته عقول مبدعيها وإرادة مقاوميها وصبر شعبها وتضحياتهم، وهو واقع يشي بالمزيد والمزيد. المزيد الاستراتيجي الذي سيقطع مرّة وإلى الأبد مع استقرار الأفكار وثبات الموازين! ولو كان الأمر غير ذلك لربّما استمرّت الحرب ومعها «الصمم» (الدعم المفتوح!) الغربي، ولربّما توسّعت. فقرار وقف الحرب، وهو من القرارات الصعبة على قيادة الحرب الإسرائيلية، جاء كنتيجة حتمية لحال المراوحة والعجز عن الوصول إلى تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف المعلنة أو المخفيّة.

النتائج المباشرة الواضحة، وهي كثيرة وذات تداعيات تأسيسية على الصراع، لا يجب أن تحجب ما هو غير مباشر منها، وهي الأخرى لن تكون بلا تداعيات. وأوّلها أن الغلالة الرقيقة التي جرى أن تُخفّف من قباحة الوجه الاستعماري وبعضاً من مسؤوليّته التي لا لبس فيها عن أصل الكارثة، لم تصمد أمام نسمات الصواريخ التي ضربت العمق الإسرائيلي وطالت مراكز حيويّته السياسية والاجتماعية والاقتصادية جنوباً وشمالاً ووسطاً. فالمواقف الشنيعة التي صدرت عن عواصم القهر والقتل الغربي، بدءاً من واشنطن وباريس وانتهاءً ببرلين، أكدت لِمَن يتعامى عن الحقائق أو يزوّرها حقيقة العلاقة القائمة والشراكة الوريدية التي يعمد ليبراليّو (اقرأ: سفهاء) العرب وليبراليّاته إلى تغييبها. فهذه الدول الساهرة على استمرارية الكيان وجرائمه لا تملك إلّا الإخلاص لتاريخها المشبع بالدماء. فكان أن أجمعت التصريحات وركّزت على منح العدو حق الاستمرار في القتل بذريعة الحق في الدفاع عن النفس، وتشريع استهداف المدنيين والبنى التحتية. أمّا التراجع اللاحق، الذي فرضه الصمود وما نجم عنه من تحوّلات أهمّها التفاعل الشعبي العربي والعالمي مع غزّة ومقاومتها، والذي تجلّى في الحديث عن ضغوط مورست على قادة العدو لوقف الحرب، فهو في حقيقته جاء ليمنح قادة الكيان مخرجاً من المأزق الذي تعمّق في ظلّ المراوحة والعجز العسكريَّين، وكاد يفتح المنطقة على احتمالات «قيامية» ترسم نهاية هذا الكيان.
ضروري القول إن من المستبعد، بل من شبه المستحيل، من الآن وحتى إشعار آخر، أن تعمد قوى وحكومات الغرب، المسؤول الأول عن الكارثة المتمادية منذ مطالع القرن الماضي، إلى تعديل ولو لفظي في موقفها. ومن المستبعد أيضاً أن نسمع (مجرّد سمع) مواقف مختلفة طالما أن الكلفة المترتبة على هكذا مواقف غائبة. إن القوة وتدفيع الثمن وحدهما الكفيلان بجعل هذه القوى المتغطرسة تتردّد وتمتنع عن إصدار أيّ موقف معادٍ يصب في مصلحة العدو. أمّا حديث بعض الدول الرائج اليوم عن الاستعداد لتقديم المساعدات والعمل على تحسين شروط المعاش في غزة، وحتى المساهمة في إعمارها، فهو، في العمق والواقع، محاولة استدراكية خبيثة لتحسين شروط الاحتلال وجعلها أقلّ فجاجة، إنما أمتن وأصلب. وهو الفخّ الذي علينا التنبّه من الوقوع فيه. فالخبث الغربي بلا حدود، ونماذجه لا حصر لها، وهو لن يوفّر الفرصة لمحاولة احتواء النجاحات المسجّلة. فهذا الغرب هو الأب الشرعي لهذا الوجود الغريب ولكلّ ارتكاباته. وكلّ فصل بينه وبين الكيان هو من باب الوقوع في الفخ المنصوب. بل إن هذه الحكومات لن تتردّد في المبالغة في إظهار دعمها لإسرائيل طالما أن المردود هو المزيد من الصفقات والاتفاقات والمزيد من الأرباح التي تجنيها من مرتزقة الخليج الذين تجاسروا على فتح أبواب التطبيع، وهي الجريمة التي لا يجب أن تمرّ هي الأخرى من دون تدفيع تلك الرموز الخيانية ثمن فعلتها الاختراقية المعادية لمصالح المنطقة وشعوبها.

لقد نجحت المقاومة، من خلال صواريخها التي كسرت «المحرّمات» الأوسلوية والتطبيعية، في التأكيد مرّة جديدة أن الجذر الفعلي والوحيد لكلّ هذا الغلوّ الصهيوني وتمادي داعميه يكمن في التفريط والتهاون العربيَّين، وشيوع أوهام الحلول والرهانات على التسويات التي فاقمت من الوضع وهدّدت بضياع الهوية بعد الأرض.
وغير بعيد عن التطبيع وأهدافه، فرضت المواجهة، من جملة ما فرضت، تصحيح وتصويب معنى العروبة ومفهومها بوصفها صراعاً مع العدو الإسرائيلي ورعاته وأتباعه، وأفشلت محاولات الرجعية العربية وسعيها الحثيث المدجّج بالمال والعصبيات الظلامية إلى تشويه هذا المعنى باتجاه حرفه نحو إيران. فهذه العروبة المزوّرة كانت أوّل ما سقط. ولم يعد ممكناً بعد اليوم تسويقها أو الدفاع عنها، وخصوصاً بعد هذا الانتصار الواضح. كما أن من النتائج التي يبنى عليها سقوط أكذوبة الوقوف مع فلسطين ومعاداة المقاومة وتعرية مرتزقتها. المقاومة هي وجه فلسطين وهويّتها، وكلّ ابتعاد عن المقاومة هو في العمق والجوهر ابتعاد عن فلسطين ومعاداة لِحقّها في الوجود الحرّ.
نحن، اليوم، قولاً وفعلاً، أمام واقع جديد. واقعٌ ما كان ممكناً لولا صلابة الإرادة وجسارة القرار وحسن التخطيط وعبقرية الإدارة. اليوم، سقط «أوسلو» نهجاً ومساراً. عادت فلسطين إلى أهلها، وعاد أهلها إلى المنطلقات النضالية التي جرى تغييبها طويلاً وأساسها المقاومة. لقد تصدّعت «الأسوار» السياسية وهلك حارسها العسكري. وانتصرت فلسطين من النهر إلى البحر. وكتبت بدماء أهلها وتضحياتهم، وتخطيط قادتها الميدانيين وجسارة قرارهم وعظيم صبرهم، صفحة مجيدة من صفحات الغد الذي ظهرت أول خيوطه مع تحرير لبنان وانتصار عام 2006. أمّا «مركبات النار» التي أُعدّت لتحاكي حرباً شاملة متعدّدة الجبهات، وبمشاركة أسلحة الجيش المختلفة، فقد احترقت قبل أن تنطلق، ورسالة الردع التي توخّتها انقلبت على أصحابها جميعاً، وأوّلهم أفيف كوخافي، رئيس الأركان البائس، الذي لم يوفّر فرصة منذ وصوله إلى منصبه للحديث عن تغييرات مفصلية وعن استعادة الردع والمبادرة وغيرها من زجليات وأهازيج القوة. ففي امتحان غزة البسيط مقارنة بالامتحان اللبناني المرتقب، سقط هو الآخر كما أسلافه من الذين تناوبوا على المناصب وعلى توجيه التهديدات الفارغة.
قد تكون مهام ما بعد الانتصار أشقّ من الانتصار بذاته، لذلك، فالأولوية، اليوم، يجب أن تكون في السعي إلى خلق الأطر الجديدة، وتجاوُز تلك التي سقطت وفشلت، وفي المقدمة العمل الحثيث على خلق إطار جامع عِماده برنامج نضالي ذو مضمون ثوري واضح المعالم ودقيق الصياغات، أولويته المقاومة، من غير أن يلغي الهوامش التي تتكامل مع هذه الوجهة التي لا وجهة غيرها لتعزيز ما تمّ والبناء عليه، وصولاً إلى التحرير، الذي، بحسب خلاصات ما بعد غزّة، لم يعد بعيداً. كما من الضروري فتح حساب المرحلة الماضية، ولا سيما أن الخسائر الناجمة عن سياسات مهزومة وقاصرة ومتهاونة وتفريطية، كبيرة وكبيرة جداً. صحيح أن اللحظة، وقد تأخّرت، سمحت بمحاصرتها والحدّ منها، إلا أن القضاء عليها وعلى آثارها يستلزم وقتاً كُنّا في غنى عن إهداره في رهانات عقيمة وسياسات مستحيلة... وهذا يقتضي ملاحقة زمرة رام الله ومحاسبتهم على ما سبّبوه لشعبنا من ويلات. المصلحة الوطنية والقومية تفترض نبش ملفات المرحلة السابقة، وتعيين المسؤوليات عن الفظاعات التي أساءت ولا شكّ لمسيرة الكفاح الفلسطيني وشوّهت مساره البهي.
هنيئاً لك يا غزة، فمجدك قد عمّ فلسطين وأيقظ العالم العربي. وإنها لمقاومة حتى... النصر!

 

المصدر: جريدة الأخبار