معارك تحرير الشرق... من تلّ مندو إلى عرسال: المقاومة والجيش في مواج
في الجزء الأول من المقابلة التي أجرتها «الأخبار» مع الضابط الرفيع المستوى في حزب الله، «أبو حسن» (اسم مستعار)، رسم مساراً لتطوّر قدرات المقاومة البشرية والتسليحية، بناءً على التجارب والخبرات التي اكتسبتها في المعارك ضد الجماعات التكفيرية في حوض العاصي والقصير في 2013، وعلى مدى عامٍ ونصف عام تقريباً، لتتوّج المرحلة بتحرير بلدات القلمون السورية، وصولاً إلى معلولا في أيار 2014 (راجع «الأخبار»، أمس).
وفي هذا الجزء الثاني والأخير، يكمل «أبو حسن» شرح واستخلاص النتائج، لمعمودية الدم والنار التي خاضتها المقاومة على مرتفعات السلسلة الشرقية العاتية الارتفاع، في معارك السيطرة على القمم الاستراتيجية.
بداية العمل من جرود بعلبك، التي انتقل إليها الإرهابيون من بلدات القلمون بعد سقوطها بيد الجيش السوري والمقاومة، وانتشارهم الواسع على مرتفعات السلسلة الشرقية، مستخدمينها لإمرار السيارات المفخّخة إلى لبنان. إذ بقي هؤلاء المسلحون متصلين بمسلّحي وادي بردى والزبداني، وكذلك الغوطة الشرقية، ما يعني استمرار الامتداد الإرهابي والتهديد للداخل اللبناني.
«أجانب» في السلسلة
المحطّة الأولى هي جرود بعلبك وبريتال. «أقمنا تشكيلة مواقع دفاعية في جرد بعلبك على ارتفاع 2300 متر، وفي جرد بريتال على ارتفاع حوالى 2400 متر، وهناك هوجمنا وسقط منّا شهيد في منطقة حرف الهوا. تبيّن أن قوّة المسلحين حوالى 4000 مقاتل من تشكيلات متعدّدة، بعضها تابع لتنظيم القاعدة ولواء الغرباء وقاعدة الجهاد في بلاد الشام وتضمّ لبنانيين، مثل أبو حسن طه وتشكيلات ذات طابع أمني مع وجود عسكري مثل كتائب عبد الله عزّام». ويلفت الضابط الرفيع المستوى إلى أنه «كنا نقاتل تشكيلات تضمّ أجانب، من عرب وشرق آسيويين لا نعرف إن كانوا من الإيغور الصينيين، إنّما كان هناك تماس مع شيشانيين في السلسلة».
«قائم 1 و2» وهجوم المسلّحين على الجيش اللبناني
مع مرور الوقت، تبيّنت الحاجة للسيطرة على إصبع الطفيل وعزل مسلّحي السلسلة والقصير عن الغوطة الشرقية ووادي بردى. و«هذه كانت عملية خاطفة سميناها قائم 1». أمّا عملية قائم 2، وهي عبارة عن توسّع وامتداد حتى جرد نحلة، و«هنا يجب الانتباه، بأن هناك أوقاتاً محدّدة خلال السّنة تستطيع شنّ عمليات هجومية فيها بسبب العوامل الجوية والظروف المناخية القاسية والصعبة». وكان الهدف الأساسي منها «نزع التهديد العسكري عن مدينة بعلبك ووقف تعرّضها لنيران الصواريخ. لذلك قمنا بالعملية في شهر رمضان (تمّوز 2014)، نفذنا عمليات على 32 هدفاً في قلب السلسلة، نجحنا في تطهير 28 هدفاً بالكامل، ولم نستطع تثبيت وجودنا العسكري في أربعة أهداف بسبب الهجمات المضادة».
التطوّر الأبرز في تلك المرحلة، هو ما حصل في نهاية تموّز، أول آب. إذ أوقف الجيش اللبناني المسؤول في «داعش» عماد جمعة على حاجز له أثناء محاولته المرور إلى عرسال، وهو من أبرز الشخصيات العسكرية وقادة العمليات الهجومية عند مختلف التشكيلات.
يقول «أبو حسن»: «في البداية لم يعرف الجيش من هو هذا المطلوب الخطير، والمسؤول عن اعتداءات إرهابية عديدة على لبنان، لكن سريعاً أخبرناهم بأن هذا هو عماد جمعة». وإثر ذلك، «قامت مجموعات من جبهة النصرة وداعش بهجوم على مواقع الجيش في محيط عرسال وسيطرت عليها، بما فيها المدرسة المهنية، حيث مقرّ قيادة كتيبة الجيش، باستثناء موقعين: واحد في وادي الحصن وآخر في وادي الأرنب، وقامت بخطف جنود. عندها سارعنا إلى تعزيز المنطقة بخط دفاعي خلف الجيش في محيط اللبوة، وأشرفنا على وادي الرعيان بالنيران. طبعاً ساعدنا الجيش لاحقاً في مجموعة من المهام العسكرية في محيط عرسال، ودخلت مجموعات من المقاومين مع الجنود إلى بعض النقاط الحساسة والخطرة. مثلاً، ضربنا ملالة كان يهرب المسلّحون بها في وادي حميّد بقبضة كورنيت، وكنا دائماً حاضرين في أي تفصيل أو مساعدة يطلبها الجيش، كرمايات المدفعية من مواقعنا».
القتال على الثلج
واستمرت هذه الحالة حتى ربيع 2015، و«طوال الوقت كنّا نقاتل المسلّحين دفاعاً وهجوماً، ومعهم الطقس، حيث أتت العاصفة «زينة» في ذلك الشتاء ووصلت الثلوج في بعض الأماكن إلى عشرة أمتار، وانعزل إخواننا في أكثر من موقع مع درجات حرارة تتعدّى 20 تحت الصفر. طبعاً، كانت هذه التجربة مهمّة، لأننا اضطررنا إلى استخدام وسائل قتالية للجبال مثل آليات السكي دو وتدرّبنا عليها مع مدربين خاصّين، وهذا أضاف خبرة جديدة إلى أنواع القتال المختلفة التي خضناها منذ معارك تل مندو». حالة المراوحة هذه استمرت حتى أيار 2015، وطوال الوقت كان هناك عمليات هجومية متبادلة بين المقاومة والمسلّحين، «استغل المسلحون الطقس أكثر من مرة وهاجمونا، وفي إحدى المرات سقط منّا سبعة شهداء في عين الساعة».
ويكشف الضابط في المقاومة عن تنفيذ عدّة عمليات خاصّة، «نحن استهدفنا الإرلهابي أبو حسن طه بعملية خاصة، وكان وقتها نائب سراج الدين زريقات، ومسؤولاً أمنياً آخر لديهم، وكان معنياً بإرسال السيارات المفخخة إلى عرسال، استهدفناه بعملية خاصة أثناء قيادته سيارة (أف. جي. كروزر) رمادية اللون».
«أمير 1» وإحباط «جيش فتح دمشق»
مع بدء الصيف، كان «جيش الفتح» الذي شكّله أبو محمد الجولاني قد بدأ يهاجم في شمال سوريا، ما أعاد للمسلحين المهزومين في القلمون شيئاً من المعنويات، بعد سلسلة انكسارات، فـ«هاجموا الجبّة وعسّال الورد وراس المعرّة، لكن باءت الهجومات بالفشل».
في هذه المرحلة، بدأت المقاومة استخدام أساليب وتكتيكات جديدة من روح الجغرافيا وخريطة انتشار العدو. فانطلقت عمليّة «أمير 1»، وهي عبارة عن تسلّلات ليلية بتشكيلات واسعة واحتلال عوارض مرتفعة ثم الاشتباك مع العدو من مسافات قريبة جداً.
يذكر الضابط في المقاومة أنه «أثناء هجومهم على الجبّة، فوجئوا عند عودتهم بأننا سيطرنا خلال هذا الوقت على معسكراتهم في وادي الدار وقرنة النحلة وحرف الدار والمغارة ودمرنا لهم مثلاً 9 آليات في خمس دقائق.
وهنا نتحدّث عن حوالى 400 نقطة قاتلوا فيها قتالاً شرساً، وفيها دبابات ومدرعات كانت لدى الفتح وأبو مالك التلّي، ولم يكن صراع النصرة - داعش قد انفجر وقتها في المنطقة، حيث قام داعش بمساعدة النصرة ضدنا. أجرينا هذا الهجوم على جبهة بعرض 28 كلم ومنطقة مساحتها 298 كلم مربعاً، أي من جرد حام - معربون - الطفيل، حتى وادي الرعيان في عرسال وآخر جرد يونين، وكان الهجوم أيضاً بالاتجاه السوري بنفس العرض، وصولاً إلى طلعة موسى وصدر البستان الشمالية والجنوبية انطلاقاً من منطقة عسال الورد». ويمكن القول إن حصيلة «أمير 1» التي استمرت 10 أيام، هي «تحرير 81 هدفاً، أهمها مرتفع الشجرتين».
ولم تكن تلك المهمة لتنجز لولا التكتيكات الجديدة، أي «الهجوم على تعدّد الاتجاهات تعدّد أنواع المناورات، بين 3 إلى 5 اتجاهات في لبنان مع 15 محوراً هجومياً وكل محور فيه 2 إلى 3 مسالك» كما يقول «أبو حسن». ويتابع «تعدد المحاور والاتجاهات أدى إلى تضعْضع قوات العدو، فحركتنا كانت تعتمد على المشاة بشكل أساسي والآليات تنخرط لاحقاً. هذه العملية أدّت إلى نتائج مهمة، أبرزها إحباط حلم «جيش فتح دمشق»، وتم تحرير حوالى 160 كلم مربع من الأراضي اللبنانية والقضاء على التهديد العسكري من جرد يونين والطفيل والتهديد الأمني. وفي أوكارهم عثرنا على سيارات مفخخة ومصانع متنقلة للمتفجرات ومخارط لتصنيع القذائف والأسلحة».
أمير 2 والوصل مع الجيش اللبناني
في شهر آب 2015، انطلقت عمليات أمير 2 الهجومية بهدف الوصول إلى تخوم عرسال والوصل مع الجيش اللبناني، و«هذا ما حققّناه. وصلنا إلى منطقة سهل الرهوة وهي مقرّ أساسي لجبهة النصرة وواكبنا إخواننا من الجانب السوري. وأمير 2 هي عملية هجومية استهدفت تشكيلات عظيمة القوى، تم السيطرة خلالها على عدّة مرتفعات ومعسكرات مليئة بالأسلحة والذخائر والآليات، وآليات مفخخة ومصانع أسلحة».
بعد أمير 2، اتخذ القرار بانتقال التركيز العسكري إلى منطقة وادي بردى والزبداني «لاستكمال تطهير المنطقة الحدودية، بعدما صارت الزبداني تشكّل همّاً عسكرياً». وفي هذه الأثناء، انتقل الطموح لدى المسلّحين إلى تطوّر تنظيم «داعش»، و«صارت الطموحات ترتفع وتنخفض بلحاظ تقدم داعش من الشرق باتجاه الغرب... وهنا أيضاً فكّروا بالوصول إلى البحر عبر الضنيّة».
وخلال معارك الزبداني، «قمنا بتشكيل خط دفاعي ثانٍ خلف الجيش على امتداد منطقة راس بعلبك والقاع»، وكان «داعش» قد سيطر على مهين والقريتين في سوريا. ويكشف «أبو حسن» أن «المقاومة أدخلت تشكيلات نظامية انتشرت بطريقة سرية، وكانت معنا تشكيلات من أبناء القرى، وحتى في بعض الأماكن من أحزاب تُخاصمنا من أبناء القرى، بعضهم قريبون من الكتائب والقوات وكنا نعطيهم الإمكانات. وفي منطقة راس بعلبك، كان للحزب السوري القومي الاجتماعي حضور بارز، حيث شكّلنا خطوطاً دفاعية وأدخلنا أسلحة ثقيلة وقبضات (صواريخ موجهة)، ووضعنا مراصد ورشاشات ثقيلة وأخفيناها لمنع أي اختراق للتماس الذي شكّله الجيش بوجه المسلّحين للدفاع عن القرى، لأنه كان هناك تهديد حقيقي من امتداد مشروع داعش بعد إحباط مشروع النصرة».
نصر الله: انْهُوا ملّف عرسال
بداية تموز عام 2017، أتت الإشارة من الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله. يؤكّد الضابط في المقاومة: «قال سماحته في أحد خطاباته: أنا ما عاد بدي إحكي عن جرود عرسال وهيدا الملفّ لازم يتسكّر. نحن اعتبرنا هذا الأمر بمثابة قرار أو أمر لإنهاء وجود هذه التشكيلات. وضعنا أمام المسلّحين خيار الخروج إلى الشمال لاستئصال جبهة النصرة، وانطلقت معركة صادق آل محمد».
ومثل غيرها من العمليّات، كانت أهداف الحملة المعلنة هي استئصال النصرة و«سرايا أهل الشام»، لكنّ لديها أهدافاً مضمرة، و«هي استعادة 5 مقاومين كانوا قد أسروا في منطقة حلب، بينما كان الهدف من معركة «وإن عدتم عدنا» هو استعادة أسرى الجيش وقوى الأمن».
ويتابع: «انطلق القتال في المنطقة الأكثر صعوبة على المستوى الجغرافي في السلسلة وهي كسارات عرسال، مع انطلاق القتال من الجهة السورية بالتوازي، من دون أن يشارك الجيش اللبناني في هذه العملية. واتخذ الهجوم اتجاهاً من الجنوب إلى الشمال، من ثلاثة محاور أساسية من الاتجاه الغربي وأربعة محاور من الاتجاه الشرقي، في قتالٍ التحامي مباشر، امتد لثلاثة أيام متواصلة وانتهى في 25 تمّوز 2017، وكان العدوّ قد أعدّ تحضيراً ميدانياً متقدّماً، عبر بناء تحصينات ووصل المناطق بعضها ببعض عبر خنادق وطلّاقات مخفية، بتشكيلات دفاعية ترفع لها القبّعة. في ضهر الهوّة مثلاً، استلزم تحريرها تنفيذ ثلاث عمليات هجومية في اليوم نفسه، وسقط منّا عشرة شهداء».
المرحلة الثانية من العمليّة، تضمّنت 7 أيام من التفاوض لإخراج المسلّحين مقابل أسرى حلب. لكن في هذه الأثناء، حدث أمرٌ من خارج التوقعات ليل 26 تموز، إذ «تاه ثلاثة إخوان منّا ووقعوا في الأسر، فطالت عمليّة التفاوض. لكن في النهاية، رضخوا لكلّ شروطنا. هم في البداية حاولوا الإيحاء بأن معنوياتهم مرتفعة، أثناء تفاوضهم مع المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، لكن وصلتهم الرسالة بأن قواعد النار جاهزة ونحن أنهينا تحضيرنا الميداني ليل 31 تمّوز استعداداً للهجوم عليهم، فرضخوا أخيراً للشروط. وبحلول يوم 4 آب، كانت العمليات قد انتهت تماماً وملفّ عرسال قد أغلق، وسلّمنا الجيش في 8 آب مجموعة من النقاط التي استفاد منها في عمليّة فجر الجرود ضد داعش، والتي أيضاً قدّمنا فيها استشارات عسكرية من خبرتنا في النقاط التي قاتلنا فيها ومنها».
«وإن عدتم عدنا»
ما هي إلّا أيام، حتى بدأ العمل على تحرير المناطق التي يسيطر عليها مسلّحو «داعش» في مقابل جرود القاع، من الجانب السوري. وقتها، يقول «أبو حسن» إن «داعش مع بدء عمليات الجيش السوري وتشكيلات المقاومة باتجاه البادية وتدمر وبدء الزحف نحو دير الزور، فقد الروح المعنوية. لكن منطقتهم هي الأعلى في سلسلة القلمون، أي حليمة قارة، ويشرفون على أوتوستراد ريف دمشق بالرؤية، في منطقة مساحتها حوالى 400 كيلومتر مربع».
وسُميت العملية الهجومية، والمرحلة الأخيرة من عمليات القضاء على الإرهاب في شرق لبنان وجبال القلمون وجنوب حمص «وإن عدتم عدنا»، بهدف نزع أي تهديد واقعي أو محتمل أو تهديد واقعي على لبنان وسوريا.
ويقول الضابط في المقاومة إن «الجيش اللبناني طلب أن يقوم بالقتال وحده على الاتجاه اللبناني وقاتل حتى منطقة ضهر الخنزير، بينما نحن كنا نهاجم بمحاذاته من الجهة السورية، بهجوم معقد من ستّة اتجاهات بهدف السيطرة على قمم السلسلة (خطّ الحدود) على ارتفاعات بين 2400 و2500، بأسلوب قتالي جريء جداً بالتسلل من أسفل إلى أعلى. وبمجرّد سيطرتنا على قرنة عجلون والصبوة، أرسل الدواعش انتحارياً بسيارة مفخخة، فقام الجيش بتدمير المهاجم».
مع وصول العمليّات إلى خواتيمها، «انحصر وجود تنظيم داعش بمنطقة حليمة قارة ومحيطها»، لكن هنا بدأت مرحلة جديدة «وكانت خياراتنا صعبة».
يكمل «أبو حسن» روايته: «انحصر داعش في قطعة لا تتعدى الـ5 كيلومترات، والمعطى الاستعلامي لدينا كان يؤكّد أنهم يلبسون أحزمة ناسفة. طبعاً، جزء من الدواعش استسلم على معبر الزمراني، بعد عزلهم. لكن الجزء الباقي أصرّ على القتال، حوالى 400 مسلّح، ومعهم نساء وأطفال بحدود 700 إلى 800 شخص، وهذه أرقام كبيرة». وفي هذه الحالة، «أول خيار هو الانتظار، والثاني هو الحصار وبناء التحصينات، لكن أيضاً هناك تكلفة بشرية عالية على الجانبين. فكان لا بدّ من الخيار الصعب، أي إخراج المسلّحين والمدنيين إلى مناطق نحن نسيطر عليها قرب حميمة باتجاه دير الزور، وهكذا ختمنا هذا الملفّ في يوم 22 آب».
المصدر: جريدة الأخبار